مؤخرًا، صار مروان الغفوري مثقفًا يتحدث من خارج القضيّة اليمنية كليًّا، تلاشى البعد النضالي في كتاباته وأصبح مراقبًا محايدًا يحاول تشريح الحالة الداخلية للبلاد على طريقة موظف دولي مختص بصناعة السلام وربما مستشار ثقافي_أممي يهدف لشرعنة الأمر الواقع ومنحه غطاءً فلسفيًّا؛ لتسويقه وإقناع الناس به.
مجمل كتابات مروان الأخيرة، تبدو حديث لمثقف لا علاقة له بالأرض والإنسان. هو بهذا المنطق وفي هذه اللحظة، لا يحرر الناس من الضلالات العقلية وأوهام الحرب والبطولة الزائفة كما يعتقد، بقدر ما يسهم في إقناعهم بالتسليم للوضع القائم، قائلًا لهم:
إن الجمهورية ليست حتمية، وإن مشروعية الطرفين المتحاربين، الجمهوري والملكي، ملتبسة، وبالتالي على اليمنيين التخلي عن الشعارات الكبرى للنضال الجمهوري والقبول بالشكل الواقعي الذي رست عليه نتائج الصراع، أي القبول بعبدالملك حاكمًا أبديًّا لعقود قادمة، فلا جدوى من رفضه ولا معنى لمصادمة حقائق التأريخ وتحولاته القاسية.
مروان 2015، يختلف كثيرًا عن مروان 2020، فيما مضى كان مثقفًا ملهمًا لنا نحن التلاميذ الصغار، الشبان المحبطين والباحثين عن وطن مفقود، كان مناضلًا يحرس القيم الكبرى للحياة، يطوع الواقع بمنطق ذكي، يرفض الإذعان لما هو كائن ويلهب حماس الجماهير نحو غد مأمون وممكن وبلغة تنويرية فيها الكثير من الرسوخ العقلي والشحن العاطفي المستنير.
كان قريبًا منا، مثقفًا عضويا_كما يقول إدوارد سعيد_أي عضوًا ملتحمًا بجسد المجتمع وهمومه وتطلعاته، حاضرا بكامل صخبه ومنخرطًا في قلب الواقع بكل أسلحته، مثقفًا صارمًا، ينبذ المهزلة، ويفتح دروب ممكنة للجماهير المناضلة.
ظل كذلك طوال فترة مضت، وشئيًا فشئيًا فقد الرجل إيمانه بقدرة الإنسان اليمني على صنع مصيره، بهتت لغته، وصار حديثه تنظيريًا يتجلى من أبراج تقعيدية بعيدة عنا، لقد انفصل المثقف عن مجتمعه وصار في مهمة تنويرية باردة، لغته تصف الواقع بحياد مخدر، تصنع وعيًا حائرًا وتسهم في تعويم الأشياء ومنح العصابة الحوثية شحنة نفسية وتأطيرا فلسفيا لمهزلتها بل والمبالغة في الإعتراف ببطولتها الكارثية والمنحطة.
وبصرف النظر عن المنطقية المتواجدة في لغة مروان؛ لكنها تظل لغة تنويرية هامدة، لا تقلب واقعًا ولا تغيّر مجرى الحياة، بقدر ما تعمم حالة من الإحباط العام لدى الجماهير، وتبالغ في ترسيخ الشذوذ كأخر تجليات الصيرورة التأريخية المرة للبلاد.
بالطبع، ليست المشكلة في تحولات خطاب الغفوري، فهذا أمر طبيعي، والإنسان كائن صيرورة، دائم التحول، تمامًا كما هو التأريخ والواقع، حالة سائلة وصيرورة دائمة التشكل ولا ترسو ع حال.
لكن المشكلة دومًا تكمن في الدور التأريخي للمثقف في اللحظات الاستثنائية من حياة الشعوب، هل عليه أن يكتفي بتوصيف الواقع اللحظي وتطبيع علاقة الناس به مهما كان وضعًا شاذًا ومناقضًا لإرادة قطاع كبير من الناس، أم يتوجب أن يكاشفهم بمرارة اللحظة ثم يحشدهم؛ لمواصلة النضال والتدافع لخلق واقع بديل وممكن التحقق، حالما آمن الناس بقدرتهم على تعديل المسار وكسر الحالة التأريخية التي يراد تثبيتها رغمًا عنهم..؟
كنت سأتقبل منطق مروان، لو أنه لباحث قادم من خارج اليمن يتحدث في عموميات نظرية، حول الجمهورية والحرب والملكية والنضال، أما أن يكون هذا خطاب لمثقف يمني، فهو بالنسبة لي حديث بائس، عقلانية فائضة عن الحاجة، لكاتب أسهمت الغربة في عزله عن بلده، وقفز سريعًا نحو خلاصات نظرية متعسفة ليبدو لنا عقلانيا، حكيمًا ومحروسًا من العاطفة الساذجة، فيما مجمل حديثه استنتاجات مغالية، منطق مثالي استسلامي ومبكر، بلا قيمة عملية أو وظيفة واقعية ممكنة في اللحظة الراهنة.
مرة أخرى، الجمهورية ليس حتمية، وبالتالي فزوالها_كما بقاءها_ممكن وطبيعي، كلا الإحتمالين لهما روافد تعضدهما، غير أن كلام مروان حول إنهيارها يبدو منطق حتمي، قد يتجلى لكم محايد وربما موضوعي ومعرفي، لكنه بطبيعة الحال يحمل دلالة ضمنية عفوية، فحواها أن علينا التوقف عن معركتنا التأريخية ضد الإمامة، فالملكيين قد حسموا اللعبة لصالحهم أو أوشكوا وليس أمامنا سوى أن ندعهم يأخذوا دورتهم التأريخية حتى يحين انهيار ملكهم، كما انهارت جمهوريتنا المغشوشة، وتلك صيرورة التأريخ.
الجمهورية ليست حتمية يا مروان، أتفق معك بهذا، وأحدثك الآن من صنعاء، وأحب أن أذكرك إن كانت الجمهورية فكرة نسبية قابلة للإلغاء، فإن أبناء الجمهورية هم الحتمية الوحيدة الغير قابلة للفناء، نحن الذين ولدنا جمهوريين، ما زلنا كذلك، متمسكين بها، وحتى إن كانت الجمهورية وهمًا في الخيال والذاكرة كذبوا بها علينا، فسوف نتمسك بهذه الكذبة المجيدة وندافع عن وهمنا المريح، ومثلما أنجب آباءنا الجمهورية من العدم، سنعيد تثبيتها يوما ونحول الوهم لحقيقة.
وبما أن الملكية هي الأخرى ليست حتمية، كما نوهت في حديثك، فلسنا مضطرين للتسليم بها وإقرارها كشكل نهائي للتأريخ، كما يكفي أن الملكيون أنفسهم يخجلون من المصارحة بها، وعلى خلاف شجاعتك في الإعتراف بهم، أظنهم أكثر حرجًا من الإفصاح عن هويتهم، وما زالوا حتى اللحظة يشتغلون تحت رداء الجمهورية، ويرددون النشيد، وليس مهما كثيرا زيفهم في هذا المقام أو صدقهم؛ ما يهمنا هو أن الجمهورية كفكرة صارت أكبر من حقيقة راسخة في الأذهان ويومًا ما سنحررها من الذاكرة ونجذر وجودها كحقيقة، تؤطر وجودنا، خالدة مثلنا وغير قابلة للفناء، ع الأقل في المدى المنظور.
الخلاصة: في الحروب تحتاج المجتمعات للأوهام والأساطير والسرديات الكبرى والملهمة لتتمكن من استثمارها في شحن الوجدان القومي ومواصلة المعركة بثبات وبطولة، كما تحتاج مثقفين من نوع مختلف، يتجاوزون_لحظيًا_منطق المراقبين أو المؤرخين المحايدين، ليؤدوا دورًا مساندا للجماهير في كتابة التأريخ العملي للبلدة، يكاشفون الناس بمرارات النضال لكنهم لا يكفوا عن شدهم لمواصلة الدرب، بدلا من الإكتفاء بشرح ما يحدث واستباق الزمن بدعوتهم للإسترخاء وتسليم السلاح والرضى بالقضاء والقدر.
أو بلغة أخرى القبول بأخر تجليات الصيرورة العبثية للتأريخ اليمني الراهن، ممثلا بالإمامة وبأبو علي الحاكم بطلًا في الذاكرة اليمنية كما بشّر بذلك مروان في أخر فيديو له بصفحته.
أخيرًا: لقد تماثل مروان الغفوري مع حسين الوادعي في كثير من صفات خطابهم، وإن كان ثمة فرق بين المنطقين، فهو فارق في الدرجة وليس النوع، كما تقول العبارة التي يحلو لمروان تكرارها كثيرا عند المقارنة.